رغم أنها جزء من المناهج التعليمية الفلسطينية الرسمية، لا زالت التربية الفنية في المدارس الفلسطينية تدرس بطريقة عشوائية من قبل معلمين غير مؤهلين، ويتم التعامل معها كمادة ترفيهية غير ضرورية. ولأن للفنون أهمية كبيرة في تحفيز الطلبة على التخيل والإبداع وتطوير المهارات الحركية والمعرفية، وتوفير مساحة للتعبير الذاتي وقنوات لتوسيع الخبرات، نظمت مؤسسات فلسطينية تعنى بالثقافة، على مر السنوات، عدداً كبيراً من الدورات لتأهيل المعلمين وورشات عمل للأطفال، وبرامج تربوية فنية متفرقة هنا وهناك. وفي المجمل، لم يكن هناك أثر لهذه النشاطات على تغيير طرق تدريس الفن المتبعة.
وفي هذا العدد يتحدث مروان ترزي، مدير مركز التعليم المستمر التابع لجامعة بيرزيت، ووسيم الكردي، مدير مركز القطان للبحث والتطوير التربوي، وجاك برسكيان، مدير المتحف الفلسطيني، عن توجهات ريادية من شأنها الارتقاء بالتعليم في المدارس الفلسطينية، والتحسين من أداء المعلمين فيها، وتحديداً في مجال التربية الفنية.
مروان ترزي: لأن فكرة التغيير مرعبة، وضعنا لبنات التعلم
أكثر من نصف مجتمعنا من الطلبة، وهم يتعلمون بطرق تقليدية عفا عليها الزمن. إلا أن فكرة تغيير نظام التعليم مرعبة، فهي مكلفة، والميزانيات محدودة، وأعداد الطلبة هائلة، وهناك ٦٠ ألف معلم يتقاضون دخلاً قليلاً، وبالتالي هم غير محفزين، وكثيرون منهم يمتهنون التعليم لأنهم لا يجدون وظائف أخرى. هذا الوضع لن يتغير في لمح البصر، وأصبح التحدي لنا في التعليم المستمر التأثير على المنهاج ذاته بشكل مبدع وخلاق، والسعي إلى حث الطلبة على التحليل والتفكير والتعلم ضمن هذا السياق.
لبنات التعلم في العلوم والرياضيات
فكرنا بأن أهم ما يمكن تغييره هو المُعَلم، لذا قمنا بإنشاء بنك يحتوي على “لبِنات تعلم” تكون تحت تصرف المعلمين. واللبنات هي أدوات لتسهيل التعليم، وهي ديناميكية وليست ثابتة، وقد بنيناها بالتوافق مع المنهاج الرسمي، وبالتعاون مع مجموعة من الأساتذة والتربويين المبدعين، ومن خلال تجارب أجريناها في مجموعة من المدارس بما يحقق الأهداف التربوية المرجوة والمذكورة في الكتاب المقرر. واللبنة الواحدة مكونة من: مصادر، ونشاطات، وبيداغوجيا. والمصادر قد تكون فيلم يوتيوب لأستاذ يشرح موضوعاً معيناً، أو فيديو لتجربة معينة، أو مقال في كتاب، أو صورة، أو game online . أما النشاطات فهي مبنية على سياق واقعي من بيئة الطالب، تحفزه وتحثه على التفكير. وتأتي مع اللبنات تعليمات واضحة ومفصلة لكيفية الاستخدام، ضمن بنك معلومات يستطيع المعلم الوصول إليه بسهولة، ومن ثم استخدامه في التحليل والنقد والتحفيز
تطلبت عملية وضع اللبنات جهوداً كبيرة، والنتائج التي حققناها مبشرة وأعطت الطلبة هامشاً للتفكير والنقد والإبداع. وخلال سنتين طورنا ١٦٠ لبنة في موضوعي العلوم والرياضيات للصفين الثامن والتاسع، وقمنا بتطبيق البرنامج في ٥٠ مدرسة، وتم تعميم التجربة على عدد أكبر من المدارس بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم. أجرينا بعض التجارب لاختبار النتائج، ووجدنا فروقات كبيرة بين المجموعات التي استخدمت اللبنات وتلك التي لم تستخدمها.
لبنات تعلم التربية الفنية
واليوم، وبالتعاون مع المتحف الفلسطيني وعدد من المؤسسات الثقافية، سنبدأ برنامجاً لبناء لبنات مشابهة للتربية الفنية. وعندما نتكلم عن العلوم نكون واثقين بأن أستاذ العلوم لديه معرفة في المادة التي يدرسها، أما فيما يتعلق بالفن، فإنه في معظم الأحيان يعلَّم من قبل معلمين من تخصصات مختلفة بعيدة بالكامل عن مجال التربية الفنية، أما المدارس التي لديها معلم فن متخصص وحاصل على شهادة في هذا المجال فعددها محدود جداً.
نحن متحمسون لبدء بناء لبنات فنية لأربعة فصول دراسية، والتي سيتم اختبارها من خلال مجموعة تركيز صغيرة، وبناء على نجاحها سنعمل على تعميم التجربة. ولاحقا لا نريد أن نحصر الفن كموضوع، وإنما نطمح لأن يتطور استخدامه في مواضيع أخرى مثل العلوم، أي أن نقوم ببناء لبنات فنية في جوهرها لاستخدامها في موضوعات أخرى.
وسيم الكردي: الفنون والعلوم مادتان غير منفصلتين في حقيقة الحياة
في مدارسنا تجزأ الأشياء وتفصل عن بعضها البعض، والطلبة غير قادرين على رؤية جدوى المواد التي يتعلمونها، وكيف لها أن تفيدهم في حياتهم العملية. وعندما وضع المنهاج الفلسطيني، كان التوجه أن تكون المرحلة التعليمية الأولى، حتى الصف السادس، تكاملية، أي أن يتم النظر إلى العلوم والفنون والتكنولوجيا واللغة والمجتمع والتاريخ في سياق علاقات مشتركة ومتشابكة، ولكن عملية تطبيق المنهاج اختلفت عما خطط لها، وتم تقسيم المواد وفصلها عن بعضها، وكذلك الحصص والمعلمون.
واليوم، هناك تجربتان متميزتان في هذا المجال، الأولى هي برنامج “الدراما في التعليم”، وتقوم عليه مؤسسة القطان، وهي تجربة نموذجية ومثالية، ولكنها لا تأخذ بالحسبان خصوصية الوضع الذي نعيشه من حيث الأعداد الكبيرة للمعلمين والطلبة، وعدم اهتمام الكثير من المدارس والمعلمين بتطوير مهاراتهم بشكل تطوعي. أما التجربة الثانية، وهي تجربة “لبنات التعلم” في مجال التعليم، ويخوضها مركز التعليم المستمر التابع لجامعة بيرزيت، حيث يحاول أن يبني بنك معلومات يحتوي على مراجع جديدة مدروسة وموثقة ومجربة من قبل مختصين، وأن يضعها تحت تصرف المعلمين، بما يمكنهم من العمل مع طلابهم خلال حصص الرياضيات والعلوم.
وارتأينا بأن نتعاون مع مركز التعليم المستمر في تطبيق برنامج مشابه لبرامجه على مادة الفنون في المدارس، من خلال التوجه لفنانين ومختصين لتوفير الموارد اللازمة وتقديمها لوزارة التربية والتعليم، لتضعها بدورها في متناول المعلمين في أكبر عدد من المدارس.
وتتلخص الفكرة في التركيز على صفين يكون فيهما الطالب قد وصل إلى أول مرحلة البلوغ، أي عمر ١٢ عاماً، لأنه السن الذي يبدأ فيه الطالب بتكوين شخصيته وتطوير الوعي بفرديته وقدراته، كما يبدأ بالاستقلال تدريجياً عن عائلته. وفي هذا السن يكون الطالب منتبهاً لحواسه المختلفة، وبالتالي فإن التدخل سيكون له وقع وأثر. فمثلاً، إذا أردنا أن نشرح موضوع الأبعاد في الفنون البصرية، ستكون هناك تجارب عملية مثل استعمال الرسم أو العدسات أو الكاميرا، بالإضافة إلى الرجوع إلى أعمال فنية ومحطات مهمة في تاريخ الفن، كفترة انتقال الفن من ثنائي إلى ثلاثي الأبعاد.
يعتبر مشروع تطوير لبنات تعلم التربية الفنية مكملاً لبرامج ورسالة ورؤية المتحف، ونرى أننا إذا استطعنا الوصول إلى قطاع عريض من الطلبة من خلال المدرسة وحصة الفن، فإن ذلك سيعود علينا بالفائدة، لأن الطلبة سيتعرفون على الفنون، وسيولد لديهم اهتمام في الفنون البصرية والثقافة بشكل عام، وبالطبع، فإن المتحف سيكون بيتاً للنشاطات الثقافية والفنية التي ستحتضن هؤلاء الطلبة، وتغذي اهتمامتهم وتلبي احتياجاتهم في هذا المجال.