مشروع أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي
مجموعة الأستاذ محمد فهد حمود
1927 -1980
يمسك مشروع أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي، منذ إطلاقه، بزمام مسؤولية استرداد الحقائق التاريخية وتمثيل المستضعفين والمغيبين خارج نطاق سلطة الهيمنة الاجتماعية والبنى المعرفية التقليدية والسرديات الكبرى. ذلك من خلال إعادة قراءة علاقات القوة والسيطرة ومنظومة القيم والتصورات وشبكات العلاقات الاجتماعية والتفاعل بين فئات المجتمع المختلفة، وإتاحة المجال أمام الناس “العاديين” للمساهمة في إنتاج وصياغة روايات حول فلسطين وثقافتها ومجتمعها من خلال التجارب المعاشة ونماذج الحياة اليومية والعادات والتقاليد وأنماط السلوك الذاتية -أو ما يعرف بالتاريخ الاجتماعي القاعدي
ولما كان هذه التوجه يتيح دراسة السير والأحداث والأماكن وتفاعلات الأفراد والمجموعات من وجهة نظر أولئك الذين يسلكون سلوكًا غير متابع بشكل دائم من قبل الباحثين والدارسين، ولا يحظون بحرية التعريف عن نمط حياتهم اليومي وتاريخ مجتمعاتهم المميز والمختلف، تضيء هذه المدونة على مادة أرشيفية تضم تقريرًا كتبه محمد فهد حمودة، المولود سنة 1927 في قرية لفتا قضاء القدس، والذي تناول فيه العديد من سمات التاريخ الاجتماعي لأهالي بلدة دير دبوان- رام الله وأنماط سلوكهم، بعد أن أتى إلى البلدة مهاجرًا، حيث استمر في الكتابة إلى أن ألمّ به المرض وحال دون إكمال التقرير حتى غيبه الموت سنة 1980
يتتبع التقرير المكتوب بين أواخر الخمسينيات حتى أوائل الستينيات من القرن العشرين العادات الاقتصادية والاجتماعية لدى السكان وأهم الحرف التي انتهجوها في الفترة المؤرخة، إضافة إلى وصف طبيعة الأنشطة التي شغلها الرجال والنساء، وطرائق عيش الأسر الريفية وشكل اللباس التقليدي الذي كان يُلبس مثل القُمباز والكوفية والعقال لغالبية الرجال، والثياب المطرزة بالحرير للنساء. أما الجيل الجديد من الرجال فقد أخذ يرتدي البدلات، ونظرًا لقرب هذه البلدة من المدينة ولتوافر خطوط المواصلات وانتشار التعليم بين الفتيات، فقد أصبحن يرتدين الفساتين والموديلات الجديدة. كما يتحدث التقرير عن النشاط الزراعي في البلدة ويذكر أن العائلات الفقيرة قد اعتمدت في معيشتها على أشجار الزيتون إلى جانب أنواع مختلفة من الحبوب، كما كان الأهالي يتناولون الخبز المصنوع من القمح الصافي وزيت الزيتون والمخبوز في الطابون أو الأفران، قبل أن يصبح الطعام متنوعًا ومنتشرًا في ظل تقدم البلدة
وفي سياق العائلة، يذكر التقرير أن المسؤول الأول عن تربية الأسرة ورعايتها وتلبية احتياجاتها هو الأب أو الأخ الأكبر، بالتعاون مع زوجته، معتبرًا أن نشاط المرأة على وجه الخصوص يكون ضمن كونها المسؤولة الثانية بعد زوجها، وعليها تقع مهام الترتيب والتنظيف وإعداد الطعام. وقد أوضح التقرير أن العلاقة بين الأسر كانت تقوم على صلة الدم ورباط القربى، ذلك قبل أن تنشأ علاقات جديدة بحكم النسب والزواج والامتزاج الطبيعي بينهم. وينوه التقرير إلى أن معظم أهالي البلدة كانوا يكتفون بزوجة واحدة، إلا أن البعض كان “يضطر” للزواج بزوجة ثانية أو ثالثة سواء لأسباب متعلقة بالعقم أو لأسباب عائلية. كما يتناول التقرير عادة “البدل”، وهي عادة متعلقة بقيام الرجل بتزويج أخته أو قريبته لشخص آخر على أن يقوم هذا الشخص بنفس الشيء فيزوج قريبته للشخص الأول كنوع من البدل، ويعتبر الكاتب أن هذه العادة كانت تتسبب بأحد أصعب المشاكل في دير دبوان، بحيث انه إذا اختلف أحد الرجلين مع زوجته وأراد تطليقها، فإن الرجل الآخر سيطلق زوجته، حتى وإن كان متفاهما معها، وذلك ردًا على طلاق بديلتها
ويلقي التقرير الضوء على العديد من العادات والسلوكيات الاجتماعية في المناسبات والمواسم، ويتطرق إلى الاحتفال بالموالد باعتبارها عادة أخذت تنتشر بشكل كبير في القرية، ومنها ما يترافق على وجه الخصوص مع انتقال أحد أبنائها للسكن في بيت جديد، فلا يسكن فيه قبل أن يدعو “جماعة الدراويش” ليقرعو طبولهم، ويذبح الذبائح ويقيم لهم الموائد، ويستمر الاحتفال حتى بعد منتصف الليل، ويمقت كاتب التقرير هذه العادة مقتًا شديدًا وينعتها بالعادة القبيحة التي يجب أن تزول. ويذكر الكاتب أن أهل القرية كانوا يقيمون احتفالات “فخمة” بمناسبة المولد النبوي ويحضرون الحلوى، كما أن هناك عادة تقارب عادة المولد وهي متعلقة بالوفاء بالنذور وذبح الذبائح وإطعام الناس في حال تحقق النذر، على غرار ما يحدث في الموالد
يستفيض التقرير في وصف طقوس الجنازات والعادات المرافقة، مبينًا أنه وعند وفاة شخصية كبيرة من أهل القرية، فإنه يتم دعوة أهالي القرى المجاورة لحضور الجنازة التي كان يشارك فيها الرجال والنساء، حيث يتم نقل الميت إلى المسجد للصلاة عليه، بعد تغسيله وتكفينه، ثم يسير الرجال في مقدمة الجنازة والنساء من خلفهم، وبعد مواراته الثرى، تكون عائلة أخرى قد أعدت الطعام لأهل الميت وللمعزين من القرى المجاورة، وبعد الانتهاء وانصراف المعزين إلى قراهم، تبدأ النساء بالندب والبكاء والعويل لمدة شهر ويلبسن الثياب الحريرية السوداء. وقد جرت العادة ألّا يطبخ أهل الميت لمدة أسبوع أو أسبوعين، ويتم إرسال الطعام لأهله من النساء إلى بيوتهن، أما الرجال من أقاربه فتتم دعوتهم لتناول الطعام طوال هذه المدة لدى أحد أهالي القرية، وتكون الدعوة عند شخص مختلف في كل مرة. ويوضح التقرير أن هذه الطقوس كانت حكرًا على الرجال من الموتى، ذلك أن المرأة المتوفاة تدفن ولا يحدث لها كما يحدث للرجل، بل ينصرف الناس إلى بيوتهم بعد انتهاء الجنازة
عادة أخرى أشار إليها التقرير بوصفها عادة حسنة وجيدة، هي عادة “العقد” أو “عقد البيت” أي إتمام بناء سقف البيت، وفيها يقدم أهل القرية المساعدة لصاحب البيت، فيذبح أقرباؤه الخراف ويساعدونه من ناحية الطعام، أما بقية الأهالي فقد يقدمون الأرز والشراب، أو يساعدون في إنجاز العمل، وعادة ما يتم رفع راية بيضاء فوق البيت للدلالة على إتمام العقد، ويذكر كاتب التقرير أنهم كانوا يخصّون “معلم البناء” بطبق مليء بالفتيت واللحم. كما أتى التقرير على ذكر عادة “القْواد” بوصفها عادة متفشية في دير دبوان والقرى المجاورة، وهي عادة متعلقة بإكرام الضيوف وذبح الذبائح وإعداد الطعام لهم في مناسبات عديدة كالموت أو الحج أو العودة من المهجر، وتطرق أيضا إلى المحاكم العشائرية معتبرا أنها عادة حسنة تساهم في حل معظم المشاكل الداخلية
وفي سياق التعليم، يذكر التقرير أن في القرية مدرسة للذكور مبنية على الطراز الحديث، وفيها أحد عشر معلمًا وتدرس حتى الصف الثالث الثانوي، وقد بنيت هذه المدرسة على حساب أهالي القرية ومغتربيها. وكذلك توجد مدرسة نموذجية للإناث، والتي بنيت في العام السابق لكتابة التقرير على أساس قرض من مجلس الإعمار، وفيها ست معلمات، وحولها قطعة أرض كبيرة تم تخصيص قسم منها للحديقة، والقسم الآخر تم استخدامه كملعب لكرة السلة
ويستذكر التقرير أن قسمًا من الفقراء كانوا يعتاشون من الزراعة ويعتمدون عليها، إلّا أنه يشير إلى أن معظم الشباب لحقوا بمركب الهجرة خلال السنوات العشر الأخيرة (السابقة لكتابة التقرير) وهاجروا إلى أمريكا على غرار ما حدث في بقية القرى المجاورة، فارتفع مستوى المعيشة في القرية وشهدت بناء عمارات ضخمة، وأصبحت دير دبوان غنية جدًا حتى ظن كاتب التقرير أنها أغنى قرية في قضاء رام الله (ومن الجدير بالذكر أن هناك العديد من الأدبيات التي تتحدث حول دور أموال المهاجرين وأثر تحويلاتهم المالية في التغيرات الاجتماعية-الاقتصادية والتحولات الحضرية التي شهدتها قرى المنطقة ومدنها). ويذكر التقرير أن الكرم كان منتشرًا في القرية واشتهرت به منذ زمن بعيد، ولا تزال كذلك حتى وقت كتابة هذه السطور، ولكن هذه العادة بدأت تتلاشى بسبب تقدم دير دبوان وتطورها نحو المدينة