راجح السلفيتي… شيخ الزجّالين الفلسطينيين
وسطَ حلقةٍ من النساء في حوشِ الحارةِ، يقفُ راجح السَّلفيتي ويردِّد الأغاني والأهازيج، وحدقاتُ والدتِهِ تتَّسعُ فخرًا كلّما أثنت النساء من حولها على صوتِ ابنها البكر.
قُدِّر للسلفيتي أن ينشأ في أسرةٍ فلسطينيةٍ فقيرةٍ، وأن يفقد والدَيه في سنٍّ صغيرةٍ ويعيل إخوته الستّة، فحزم صوتَه الجميل وفكاهةَ روحهِ وحسنَ حضورهِ، وصار يغنّي في عمله، وفي أعراسِ بلدتهِ والقرى المحيطة، بعد أن كان صبيًا يردِّد تهاليلَ والدته، ويغنّي متوسّطًا الحلقاتِ في الحارة.
نما راجح الزجّال تمامًا كنموّ غرسةِ الزيتون على أحد أطرافِ واديَي المطوي والشاعر، حتّى صار زجّالَ البلدةِ الأوَّل، ومضربَ مَثَلِ أهلِها القائل: “العرس ما بِعمر في سلفيت إذا مكنش راجح فيه”، ليصبحَ بعدها شيخَ زجّالي فلسطين، وظلّت سلفيت وهمومُها تلهمُه، وتسكنُ فيه، وقال فيها:
مين كان بهموم الناس شاعر إذا ترجم شعوره صار شاعر
يا جنّة بين مطـوي وشاعـــر مـا ببدّلـها بجنّـات السـمـا
تأسّس وعيُ السَّلفيتي في الشعر من الحوادثِ الدائرةِ في فلسطين، فتأثّر إنتاجه بها، ومن هذه الأحداثِ كانت ثورةُ البراقِ وحادثةُ إعدامِ الشبّان الثلاثةِ عام 1929 (محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي)، بالإضافة إلى تأثّره بنوح إبراهيم وإبراهيم طوقان، وغيرهم من شعراءِ تلك الفترة.
بالرغم من صغر سنّهِ، إلى جانبِ المسؤوليّاتِ الجسامِ المُلقاةِ على عاتقه، إلّا أنّه شاركَ في الثورة الفلسطينيّةِ الكبرى عام 1936 والتحقَ بصفوفها، وغنّى لها وعنها. كما وتطوَّع إبّانَ النكبةِ في الحربِ والقتال، حتى أُصيبَ إصابةً بالغةً، أدّت إلى استقرارِ رصاصةٍ بالقربِ من رئتَيه، وتسبّبت له فيما بعد بأمراضٍ رئويّةٍ مزمنة.
وما إن أصبحت النكبة واقعًا يعيشه الفلسطينيّون، ومع بروز التنظيماتِ القوميّةِ والشيوعيّةِ في فلسطين، انخرطَ السَّلفيتي في عصبةِ التحرّر، وكان أحد مناضليها ورموزها، الأمر الذي تسبَّب في ملاحقتِهِ ومطاردتِهِ وسجنِهِ، خاصّةً وأنَّه كان أحد الذين عارضوا حلفَ بغداد، وكتب يهجوه في عددٍ من القصائد.
تسلَّل السَّلفيتي في خمسينيّات القرنِ العشرين إلى دمشقَ وبغدادَ، ومن ثمَّ إلى تشيكوسلوفاكيا، تاركًا خلفه سلفيت وفلسطين، ليعودَ إليهما في أوائل الستينيّات، ثمّ يُلاحَق مرةً أخرى ويغادرهما إلى سوريا مجدّدًا، ليعودَ إليهما بحلول النكسةِ في عام 1967، ولم يغادرهما بعدها.
في ظلّ كلِّ هذا كتب السلفيتي عن الهزيمةِ والنكسةِ والاستيطانِ:
ستظل يا يوم النحس شاهد حقير عسياسة الإفناء وخطة التهجير
حتى الثعالب مـارسـت فيك الزئير لــما خـلـي الـمـيـدان لـحمـيـدان
عاش راجح السَّلفيتي حياةً مليئةً بالأحداثِ المختلفةِ، حيث اعتُقلِ أكثر من مرّةٍ، كان أوَّلها عام 1974، على خلفيّةِ نشاطِه الوطني، وكان آخرها في عام 1988. وكتبَ في السجن عدَّة قصائدَ زجليَّةٍ، منها ما كتبه في سجن نابلس المركزي، فتداولَهُ السجناءُ ونقلوه من سجنٍ إلى آخر، مثل قصائدِ “في ذكرى الكرامة” و”في نصر الشعب الكمبودي” و”إلى ولدي أحمد” و”في ذكرى حزيران المشؤوم”، وغيرها.
قرر السَّلفيتي عام 1976 خوضَ غِمار انتخابات المجلسِ البلدي في سلفيت، وشكَّل كتلةً شعبيَّةً وطنيَّةً مع رفيقه خميس الحمد وعددٍ من وجهاء البلدة، رفعت الشِّعارَ الموحَّدَ الذي رفعته باقي الكتلِ الوطنيَّةِ في فلسطين: “لا للإدارةِ المدنيَّةِ، ونعم للوحدةِ الوطنيَّة”، ومن أجل الكتلةِ غنّى راجحُ ما كتبه في اللّازمة:
يا جماهيرنا الشعبية يا قوى العمالية كتلتنا الوطنية وغير الكتلة مالنا غير الكتلة مالنا
كان لراجح السَّلفيتي حضورٌ في جامعة بيرزيت، التي شاركَ عدَّة مراتٍ في مهرجانها السنوي، وفي مختلفِ نشاطاتِها، وحضرت زجليّاتُه في أروقتِها، حيث غنّى فيها أكثر من مرّة. وعندما أُغلقت الجامعة غنّى السَّلفيتي وقال:
سكر على الجامعات وين الديمقراطية
سكر اليها الأبواب فتشردوا هالطلاب
دولة الها دبابات وأساطيل وطيارات
كيف بتخاف من رسومات على ورقة مهفية؟
(من تسجيل صوتي مؤرشف)
لا تكادُ تخلو دفاترُ الطالب، التي دوَّن فيها راجح السلفيتي بخطِّه وخطِّ ابنتِه ضحى، من قصيدةٍ تتغنّى بالحجارةِ والشهداءِ والانتفاضةِ ويومِ الأرض، حيثُ كتب عشراتِ القصائدِ والهتافاتِ، وغنّى في الأعراسِ للانتفاضة، فجلجلَ صوتُه عاليًا، حتى كسرت اللّازمةُ، التي ردَّدها الشبّان خلفه أمامَ التوتةِ العتيقةِ في ساحة بلدتِهِ، مِخرَزَ ضابطِ الإدارةِ المدنيَّة عندما حاصرهم وسطَ الساحة.
فقال يحاكي فرقة العاشقين:
اشهـد يا عالـم علينا وعالـقطـاع اشـهد عالضفة الغربـية
مظاهرات خاضت غمرات الصراع ضد جيوش الصهيونية
ألقى راجح السَّلفيتي في أوائل عام 1988 واحدةً من أهمّ القصائدِ الشعبيّةِ التي نظّمها بعنوان “الكفّ اللّي بيكسر المخرز”، وانتشرت انتشارًا واسعًا، حيث لاقت قبولًا كبيرًا بين الفلسطينيّين، لبساطتها وقوَّة معانيها، وفيها قال:
يا صـوت جـلجل وأهل الهمم ناديها ونفوس سدرت في غي العهر خليها
خبر المذابح دوى في مسمع الأقطار يهز الضـمائر ليوقضـها يـصحـيـها
وفي نهايتها كتب:
مـن تـجربتنـا تعـلـمـنـا أمـور كـبـار إن الـتجـارب مـنـائـر نـهتدي بيها
أثبت الكف بوحدة الصف والإصرار مش بس بيقدر يلاطع مخرز الغدار
بكسر المخرز وبكسر عنق باريها
عاشَ السَّلفيتي تجربةً طويلةً ممزوجةً بالنِّضالِ والزجل، فحصد، عن جدارةٍ، لقبَ شيخِ الزجَّالين الفلسطينيّين، ودَوَّت كلماتُه وصدحت في العديدِ من منابرِ فلسطين، في الناصرة وحيفا ويافا وعكّا والقدس ورام الله ونابلس، حتى قال إميل حبيبي فيه: “رأيتُهم يحملونَ الحجرَ في يدٍ، وأزجالَ راجح السَّلفيتي في اليدِ الأخرى”.
لم تبرح الرصاصةُ التي لازمة السَّلفيتي أربعةَ عقودٍ، منذ عام 1948، تؤثِّر على صحّته، حيث مرضَ عام 1990 مرضًا شديدًا، حتى طالَ ليله عليه، فقال يصفهُ: “ما أطولك يا ليل على العيّان”، وهذه كانت من أواخر القصائدِ التي كتبها، وتوفّي بعدها بتاريخ 27 أيار 1990، فغابت حنجرتُهُ غيابَها الأبدي، وغادر السَّلفيتي أبناءه الأربعةَ: يسرى وضحى وعندليب وأحمد.
كان السَّلفيتي يتنقَّل بين المقاماتِ الزَّجليَّةِ الغنائيَّةِ كغزالٍ يتجوَّلُ في البريّةِ الفلسطينيّة، من سلسلةٍ إلى أخرى، فيغنّي ومعه عازفُ شبّابةٍ أو طبلةٍ لينتجا معًا لحنًا فلسطينيًّا خالصًا، ومن خلفهم تردّد أصواتُ شبابِ القريةِ الفلسطينيَّةِ لازمةَ الوحدةِ الوطنيَّةِ بحماسةٍ، تجعلُه يوقفهم ممازحًا: “اسمعوا، إذا بتظلّوا تنطّوا وتستعجلوا بتخربوا علينا السهرة يا عمّي، عالرايق، الحماس زيادة بيضرّ أكثر من البرودة”.